العجز عن التعامل الجيد مع كل أشكال الروبابيكيا والقمامة والنفايات, هو من أشكال التخلف, ومن هذه الأشكال قصص الجاسوسية الأخيرة. إنها حكايات خائبة لا تقنع أحدا من المصريين, فلماذا ننتج سلعة لا يرضي أن يشتريها أحد.
(1) خذ مثلا.. حكاية الجاسوس الإيراني الأخيرة, فقد ثبت أنه كان يعمل سكرتيرا ثالثا ببعثة رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة, كانت تهمته هي العمل علي جمع معلومات عن شباب الثورة, وعن تيارات الإسلام السياسي في المجتمع مثل الإخوان المسلمين, والسلفيين وغيرهما, واتهم أيضا بالسعي إلي عقد لقاءات مع بعض ممثلي هذه التيارات, والسعي إلي لقاء مع الفلسطينيين من فتح وحماس لمعرفة أسباب نجاح القاهرة في إبرام اتفاق المصالحة, ومحاولته إفشال ذلك.
وانتهت هذه الحكاية كلها بإعلان أنه شخص غير مرغوب فيه دون تقديمه للمحاكمة, وبالتالي غادر البلاد, وكانت الفائدة الوحيدة لاكتشاف أو إذاعة موضوع التجسس هذا هي تأجيل قصة استئناف العلاقات مع إيران, علي الأقل في الوقت الحالي.
ويلزم أن نسأل هنا: ما هي وظيفة السكرتير الثالث إلا جمع المعلومات عن أي بلد يقيم بها؟ ويتم ذلك عن طريق الصحف, أو اللقاءات المباشرة مع الأطراف المعنية, ما هو الغريب في هذا؟ أين هذه المعلومات الحساسة؟ أرجوك لا تقل لي إن مجرد لقائه مع شيعي مصري هو مقدمة لحركة تشيع في البلاد, فهل قصة بسيطة تكفي لوقف أي تطور مهم في العلاقات معها؟
(2)
مثال آخر.. حكاية الجندي الإسرائيلي الجاسوس, فهذه القصة هي نسخة ركيكة لما كان يقوله التليفزيون المصري إبان ثورة يناير بهدف تحذير الشباب من وجود أجانب مندسين بين صفوفهم بميدان التحرير وفي مختلف أماكن التظاهر, والغاية من ذلك هو إيهام الشباب بأنهم طيبون ويحبون رئيسهم, ولا يمكن أن يفرطوا فيه, وأن الأجانب هم الذين يحرضونهم علي هذا, ويقدمون لهم في المقابل أطعمة ومشروبات وربما نقودا.
وصاحبنا الإسرائيلي وصل لأول مرة إلي القاهرة يوم11 فبراير, وللأسف كان ذلك هو يوم تخلي مبارك عن السلطة, وإلا كانت قصته قد نسبت إليه المسئولية عن هذا القرار بحكم أنه جاسوس من الموساد بدرجة ضابط, فهو إذن خطير جدا جدا جدا, وسافر يوم32 فبراير ثم عاد يوم72 فبراير, وأخيرا عاد يوم01 مايو حتي ألقي القبض عليه.
بالمنطق البسيط كيف يستطيع جاسوس في أيام قليلة أن يخترق شباب الثورة, والقوي السياسية؟ كيف يستطيع أن يتنقل بين القاهرة والإسكندرية والأقصر وأسوان وإمبابة لزرع الفتنة الطائفية وهو مجرد جاسوس طياري وليس مزروعا في مصر علي طريقة رأفت الهجان, وجمعة الشوان؟كيف يمكن أن يقنع الشباب بأن يعتدوا علي القوات المسلحة؟
وأين هي حالات اعتداءات الشباب علي القوات المسلحة؟ وكيف يتنقل بهذه الطريقة وهو غريب علي البلاد لم يستقر بها وليس له بها معارف؟ هل هو من أهل الخطوة كما يقول الصوفية؟ هل من يلتقي بهم عرضا في ميدان التحرير يمكن أن تكون لديهم معلومات خطيرة تضر الأمن القومي أو القوات المسلحة؟ هل المسائل بهذه البساطة أو السذاجة؟
المدهش في الحكاية أن الجاسوس أقام لنفسه موقعا علي الفيس بوك وضع فيه كل صوره في مصر, وكان يستخدم الإنترنت والبريد الإلكتروني في إرسال تقاريره وتحليلاته, فهل هناك جاسوس في الدنيا كلها يفعل ذلك؟ يستخدم الفيس بوك والإنترنت في عمليات الجاسوسية؟ وهذه هي القرينة الأساسية ضده.
(3)
لا جدال في أن حماية البلاد من التجسس مهمة قومية خطيرة, ولكن ربما كان تواضع المعلومات المنشورة بشأن هذه القصص يقل كثيرا عما في حوزة الأجهزة المعنية لاعتبارات تتعلق بسرية العمل, وذلك بصرف النظر عن درجة اقناعها للرأي العام, ولذلك ففي بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة استعانت المخابرات بكبار الروائيين مثل جورج أورويل, وآرثر كوستلر إلخ لصياغة قصص وحكايات الجاسوسية بشكل مقنع ومحبوك, وبعيد عن الركاكة والبلاهة, فهل نفعل مثلهم ونستعين بخبراء لهم خيال روائي يصيغون لنا قصصا عن عالم الجاسوسية قابلة للتصديق؟